بداية الكتابة المسمارية ومراحل تطورها
-----------------------------
جاء في قصة -انيمركار - الحاكم السومري مع- سيد ارّاتا - ما نصه (صنع كاهن كلاّب الأعلى بعض الطين وكتب عليه كلمات كما لو كان رقيماً . في تلك الأيام لم تكن الكلمات المكتوبة على رقم الطين موجودة بعد . أما الآن فمع شروق الشمس ، كتب كاهن كلاّب الأعلى كلمات على رقم الطين ، وهكذا كان..) . اكتشفت في حرم معبد أي أنّا Eanna في الطبقة الرابعة من موقع الوركاء . لقد كانت تلك العلامات هي بداية الطريق نحو التدوين الذي غدا يميز العصور التالية . وقد مرت العلامات الكتابية بمراحل ثلاثة متداخلة اكتمل في أثنائها نظام التدوين وأصبحت منذ مطلع العصور التاريخية في حدود 3000 قبل الميلاد وهذه المراحل هي:
1
المرحلة الصورية
Pictographic stage:
===========
اكتشف أكثر من خمسة آلاف رقيم طيني من دور الوركاء /الطبقة 4/ عثر على معظمها في حرم معبد أي انا في الوركاء وعثر على قسم منها في كل من تل العقير وجمدة نصر وخفاجي وأور وشروباك وكيش. وتمثل هذه الرقم أقدم الرقم المكتشفة حتى الآن لذا عرفت بالرقم القديمة. وعرفت أيضاً برقم ما قبل المسمارية proto cuneiform إذ كانت العلامات الكتابية مرسومة عليها بقلم مدبب الرأس يتم تحريكه على الطين الطري لرسم الشيء المادي المراد التعبير عنه رسماً تقريبياً. وعرفت العلامات المدونة على هذه الرقم بالعلامات التصويرية Pictographic لأنها تصور بشكل تقريبي الأشياء المادية، وعرفت المرحلة التي استخدمت فيها تلك العلامات بالمرحلة التصويرية المبكرة من تاريخ الكتابة. كانت الكتابة صورية إلا أن قسماً منها استخدم أحياناً وفق الأسلوب الرمزي أيضاً ideographic، إذ كانت العلامة الواحدة تعبر عن كلمة معينة أو فكرة معينة. والمعروف أنه لا يمكن تحديد اللغة التي استخدمها الكاتب عند استخدام علامات صورية ورمزية فقط لإنها عبارة عن رسوم تقريبية لأشياء مادية فحسب وإلى جانبها أرقام تشير إلى أعدادها أو كميتها. أما مضامين النصوص المكتشفة فغالبها كانت اقتصادية وتقدر نسبة النصوص الاقتصادية إلى مجموع الرقم المكتشفة بأكثر من 85% أما الرقم الأخرى الباقية فكانت لغوية مدرسية. وضمت الرقم ذات المضامين الاقتصادية غالباً علامات تمثل الأشياء المراد الإشارة إليها وإلى جانبها علامات تدل على الأعداد. وتشير دراسة الأرقام المكتوبة على هذه الرقم أن الكتبة استخدموا كلا النظامين العشري والستيني في الحساب.
أسلوب كتابة العلامات
--------------
منذ أواخر دور الوركاء / الطبقة 4/، وفي رقم الوركاء من / الطبقة 3/ وما بعدها ورقم جمدة نصر، حدث تغيير مهم في أسلوب كتابة العلامات على الطين. فبعد أن كان الكاتب يرسم العلامة بقلم مدبب الرأس غدا يطبع العلامة على الطين الطري وذلك بضغط نهاية القلم ذي المقطع قائم الزوايا وبشكل مائل تاركاً في كل مرة طبعة غائرة تتألف من خط مستقيم يمثل ضلع مقطع القلم قائم الزوايا، ومثلثاً غائراً يمثل طبعة زاوية مقطع القلم عندما يمسك القلم بشكل مائل ويضغط بزاويته على الطين.
وبتكرار عملية طبع القلم تتألف على الطين وفق شكل العلامة المراد رسمها، تتشكل العلامة وتظهر مؤلفة من مجموعة من الخطوط الأفقية والعامودية والمائلة، حيث ينتهي كل خط منها بمثلث صغير غائر ويظهر شكلها وكأنها مؤلفة من طبعة مجموعة من الأسافين أو المسامير.
أما بالنسبة لعدد العلامات الكلي المستخدم، فيبدو أنه كان كبيراً في بدايات الكتابة ثم بدأ بالتقلص حتى استقر العدد في الحقب المتأخرة نسبياً على ما يقرب من 550 علامة. وقد أمكن حصر ما لا يقل عن 2000 علامة في رقم حرم أي انا في الوركاء / الطبقة 4/ ويظن أن عددها كان ضعف هذا الرقم. وفي رقم شروباك كان عدد العلامات المستخدمة 800 علامة، أما رقم جمدة نصر وأور، فقد أمكن احتساب 400 علامة فقط. إن اختزال استخدام العلامات شمل العدد كما شمل الشكل أيضاً.
ويلاحظ أن تراجع عدد العلامات المستخدمة واختزال أشكالها بتجاوز التفصيلات الدقيقة؛ ترافق مع اتجاه مضاد يعمل على زيادة عدد العلامات. فقد تتطور العلامة الواحدة إلى علامتين مختلفتين من أجل شرح الأفكار المختلفة المرتبطة بمعنى العلامة، وقد تدمج علامتان أو أكثر لتكون علامة جديدة ثالثة تستخدم إلى جانب العلامتين السابقتين، فمثلاً العلامة التي تدل على الرأس، زيد عليها عدد من الخطوط والتفاصيل الأفقية فتكونت علامة جديدة تشير إلى الفم، وإذا زيد عليها علامة صغيرة تدل على الخبز، أو الأكل أصبح معنى العلامة الجديدة المركبة الفعل أكل وهكذا، أما بالنسبة لدمج علامتين مستقلتين بعلامة واحدة تحمل معنى جديداً، فلعل خير مثال لذلك هو دمج العلامة لُ lu (رجل) والعلامة گَال gal (عظيم)، لتكوين علامة جديدة لوگَال lugal (ملك) أو (رجل عظيم).
المرحلة الرمزية
Ideographic stage:
-------------------
مهما زاد عدد العلامات الصورية أو قلَّ، فإنه لا يمكن بوساطة هذه العلامات التعبير عن كل ما يجول في ذهن الكاتب من أفكار وأفعال وأحداث. وإن مثل هذه الطريقة الصورية لا تفصح بالطبع عن اللغة التي كتب بها الكتبة تلك العلامات ، وقد حفزت هذه الحقيقة الكتبة الأوائل إلى ابتكار طريقة جديدة للتعبير عما يجول في خاطرهم فابتكروا الطريقة الرمزية Ideographic، أي الرمز إلى بعض الأفعال والصفات والأفكار بكتابة أو رسم علامات صورية لأشياء مادية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتلك الأفعال والصفات والأفكار، ولم تعد العلامة الصورية المستخدمة تدل على الشيء المادي الذي تمثله فقط بل غدت ترمز إلى كل الأسماء والأفعال والصفات التي ترتبط بذلك الشيء. فمثلاً العلامة الصورية التي تدل على القدم كشيء مادي غدت تستخدم للرمز إلى كل الأفعال المرتبطة بالأفعال بالقدم مثل المشي والوقوف والذهاب والحمل والجري، والعلامة التي تدل على المحراث الخشبي أصبحت تستخدم للدلالة على المحراث وعلى الحارث وعلى الحراثة وعلى فعل حرث وهكذا. كما أدمجت بعض العلامات الصورية مع بعضها الآخر للدلالة على معان جديدة. وظلت الطريقتان تستخدمان في آن واحد منذ وقت مبكر جداً. إذ يشير قسم من رقم الوركاء/الطبقة 4/ أيضاً أنها ضمت علامات استخدمت استخداماً رمزياً .
المرحلة الصوتية (المقطعية)
شكل الكتابة المسمارية من القرن 26 ق.م
تعتبر "المرحلة الصوتية" (phonetic stage)
من أهم المراحل التي مرت بها الكتابة المسمارية وأكثرها تعقيداً وتطوراً، فعلى الرغم من استخدام العلامات المسمارية بالطريقتين الصورية والرمزية للدلالة على الشيء المادي الذي يريد الكاتب أن يعبر عنه أو يرمز له، ظلت هذه العلامات قاصرة عن التعبير عن الكلام المحكي، أي اللغة، تعبيراً دقيقاً بل ظلت عاجزة عن بيان اللغة التي تكلم بها الكاتب وأسلوب لفظ العلامات التي رسمها أو طبعها على الطين، كما أن الكتابة وفق الطريقتين الصورية والرمزية لا تساعد على كتابة أسماء الأعلام والأدوات النحوية. لذا كانت الحاجة ملحة لابتكار طريقة جديدة في استخدام العلامات المسمارية تهتم بالصوت الذي تقرأ به العلامة دون المعنى الصوري أو الرمزي الذي تدل عليه، فكانت الخطوة المهمة في ابتكار الطريقة الصوتية في الكتابة التي تمثل آخر مرحلة من مراحل تطور الكتابة المسمارية.
لقد بدأ استخدام الطريقة الصوتية في الكتابة منذ وقت مبكر، ورغم أننا لا نستطيع تحديد تاريخ بدء استخدامها على وجه الدقة، إلا أن من الممكن تتبعها في رقم الوركاء /الطبقتين 3-2/ وفي رقم جمدة نصر، ويبدو أن أول خطوة نحو استخدام الطريقة الصوتية في الكتابة تمثلت في كتابة الكلمات المتشابهة لفظاً في المعنى بعلامة واحدة كانت تستخدم أول الأمر للتعبير عن معنى إحدى هذه الكلمات.
فمثلاً كان هناك علامة تستخدم للدلالة على الثوم والتي تقرأ "سُم" بالسومرية ولما كان الفعل (ذَهَبَ) بالسومرية يلفظ (سُم) أيضاً فقد استخدم الكاتب السومري العلامة نفسها لدلالة مرة على الثوم ومرة أخرى للدلالة على الفعل ذهب، وذلك حسب مضمون النص. أي أن الكاتب هنا استخدم القيمة الصورية للعلامة لكتابة كلمة أخرى لا علاقة لها بمعنى العلامة الصورية، وأصبحت الرموز أشبه بالحروف الأبجدية التي نستخدمها الآن في كتابة أية كلمة، غير أن الحرف الأبجدي يمثل صوتاً منفرداً consonant، في حين يمثل المقطع الصوتي صوتاً صامتاً مع حرف علة، قبله أو بعده مثل (مَ ma)و(مِ mi ) و(اَم am) و(اِم im).
وقد يكون المقطع مؤلفاً من حرفين صامتين بينها حرف علة أو من حرفين من حروف العلة بينها حرف صامت. فإذا أراد الكاتب أن يكتب اسم الملك حمورابي مثلاً، كان عليه أن يجزئ الاسم إلى عدد من المقاطع الصوتية، حَ . مو . را . بي، ثم يبحث عن العلامات الصورية أو الرمزية التي تلفظ مثل لفظ هذه المقاطع دون الالتفات إلى معانيها. وإن كانت معاني هذه العلامات الصورية الرمزية في غير مكان هي: (حَ) سمكة + (مو) اسم + (را) ضرب + (بي) شراب.
وكانت الطريقة الصوتية (أو المقطعية)، الجديدة ملائمة جداً لكتابة اللغة السومرية بما فيها من أسماء وأفعال وصفات وأدوات نحوية إذ إن اللغة السومرية لغة لصقية، أي أن جذر الكلمات، وكان غالباً أحادي المقطع، يبقى دون تغير عند تغير الصيغة الزمنية أو شخص الفاعل بل يزاد إلى العلامة التي تعبر عن الاسم أو الفعل مقاطع صوتية أخرى قبل الاسم أو الفعل أو بعده ليحدد المعنى المطلوب
المصدر
-----
قسم الآثار - جامعة دمشق