الرافدين بحضارة الطين. ويعود اصل هذه التسمية الى التكوينات الرسوبية لنهري دجلة والفرات منذ ملايين السنيين. وليس من الغريب، ان تتكون مثل هذه الدلتا وذلك بسبب تراكم الغرين الذي تحمله مياه هذين النهرين العظيمين الذي كون هذه الارض الرسوبية الطينية الغرينية الخصبة التي تعتمد أساسا على الترسبات الغرينية لمياه دجلة والفرات وروافدها المتعددة.
وبسبب افتقارالتربة الى المعادن والصخور والحجارة والخشب فقد استغل العراقيون القدماء التربة الغرينية لوادي الرافدين واستطاعوا تحويلها الى "سلة غلال" وذلك باكتشاف طرق ووسائل واساليب لإرواء الاراضي الزراعية وسقيها اصطناعيا واستغلال المياه استغلالا جيدا، وجمع ما تراكم من الغرين ليشكلوا منه حجارة وتماثيل واواني فخارية ومعدات للعمل والسكن وللاستعمال اليومي. كما كان الطين المادة الاساسية والرئيسية التي شاعت في حضارة وادي الرافدين لتدوين النصوص الادبية والقانونية والتاريخية وغيرها. وبهذا استطاعوا تعويض ما افتقدوه من صخور وحجارة بالطين وما افتقدوه من خشب بالقصب لبناء البيوت والمعابد وصناعة القوارب والحصران وغيرها.
لقد كانت حضارة وادي الرافدين حضارة طينية وبقيت كذلك، حتى خلال الحضارة العربية الاسلامية التي ازدهرت في العصر الوسيط. وقد تميزت عن غيرها من الحضارات باندثار آثارها وشواهدها وزوال عمارتها العظيمة التي لم يبق منها الا اطلالا مندثرة. وهو ما جعل الاحساس بالماضي مبهما ومغلفا بمشاعر الخوف والقلق والاثم من سخط القوى الطبيعية والما ورائية، كما ظهر ذلك واضحا في مقاطع من ملحمة كلكامش حيث نقرأ:
قال أتوـ نبشتم لكلكامش:
ان الموت قاس لا يرحم،
هل بنينا بيتا يدوم الى الأبد؟
وهل ختمنا عقدا يدوم الى الأبد؟
وهل يرتفع النهر ويأتي بالفيضان على الدوام؟
وفي مقطع آخر يقول كلكامش:
وهل يدرأ كوخ القصب( الحلفاء) الزمهرير؟
واذا كان صراع الانسان مع الموت والخلود في ملحمة كلكامش ، فان الصراع الحضاري في وادي الرافدين كان مع الماء والطبيعة.فالماء بالنسبة للانسان هو الحياة وحيثما يوجد ماء توجد الحياة والحضارة، ولذلك قيل حيثما توجد مصادر المياه تنبت الحضارة. غير ان الصراع مع الطبيعة في وادي الرافدين كان سببه الفيضانات المدمرة التي كانت تعني الخراب والموت للارض والانسان والزرع والحيوان، ولهذا اصبح هدف وجوهر تاريخ الانسان في بلاد وادي الرافدين هو تنظيم المياه وتنظيم طرق الري وبناء السدود والترع والجسور والكفاح من اجل السيطرة على الفيضانات وتحويل مياه الفيضانات الهادرة التي تنهمر من الاراضي المرتفعة في انهار وترع وسواقي والاستفادة منها في اوقات الصيهود (الجفاف) بدلا من تدمير الزرع والحرث والنسل. وهكذا ناضل الانسان العراقي منذ فجر التاريخ في شق الانهار وبناء السدود والخزانات المائية والتوسع في زراعة الارض واستغلالها استغلالا منتجا. ولهذا السبب اصبح العراق عبر الدهور فردوسا تتكالب على احتلاله الاقوام والشعوب المجاورة.
ولما كان العراق يقع على اطراف الصحراء فقد اصبح تاريخه هو تاريخ صراع بين الماء والصحراء وبين الاستقرار والتنقل من مكان الى اخر وراء العشب والمطر ، بين البداوة والحضارة وبين الخشونة والطراوة. وما قصة الصراع الازلي بين قابيل وهابيل الا رمزا لهذا الصراع بين الخير والشر.
وكانت بلاد الرافدين منفتحة على تهديدين بشريين وحضارتين كبيرتين ما زالا مستمرين حتى اليوم، وذلك بسبب موقع العراق الاستراتيجي بين الشرق والغرب وربطه بين طرق التجارة العالمية القديمة التي تربط بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب، فهو يشكل حلقة وصل برية هامة تربط بين آسيا وأوروبا من جهة، وبين آسيا وافريقيا من جهة أخرى، كونت علاقة متوترة مع دول الجوار على طول التاريخ، اضافة الى انه لا يملك منفذا بحريا واسعا يستخدمه للنقل البحري. ولذلك كان هناك صراع مباشر تارة وغير مباشر تارة آخرى مع هذه الدولة المجاورة او تلك. فالبابليين كانوا في صراع وحروب مستمرة مع الاخمينيين والساسانيين الفرس من جهة الشرق، ومع الروم والاغريق من جهة الغرب والشمال الغربي. ورغم الاختلاط والتلاقح الحضاري مع الايرانيين والشعوب السامية والتركية، وبخاصة في العصر العباسي، غير ان الصراع ما زال مستمرا، مما جعل العراق في حالة عنف وقلق وعدم استقرار. اضافة الى خطر الشعوب والقبائل الرعوية والاقوام الغازية من الشرق والغرب ، الذي يهدد الانجازات الحضارية العظيمة التي ابدعها العراقيون القدماء.ولهذا اصبحت الدولة دفاعية وليست هجومية الا نادرا.
ومن اجل حفظ الامن والاستقرار، كان من الضروري وجود حكومات قوية تستطيع بسط نفوذها على البلاد. خصوصا وان اغلب حكومات تلك الفترة هي حكومات لا مركزية واقرب الى " دويلات المدن". وكان الملك يقف على رأس السلطة التي يستمدها بشكل مباشر من الالهة. فكان الملك يتولى قيادة الجيش في الحروب وحماية البلاد وتوفر الوسائل الكفيلة التي تساعد البلاد على التقدم الاقتصادي والرخاء عن طريق بناء السدود وحفر القنوات والانهار وبناء المعابد وتنظيم الحياة العامة عن طريق تشريع القوانين وتدوينها، كشريعة حمورابي، التي تعتبر من اقدم التشريعات القانونية في تاريخ العالم. كما تطورت في بلاد الرافدين القديمة اولى الصناعات وطرق التجارة الداخلية والخارجية.
نمط الانتاج الاسيوي
ومن الظروري ان نلقي نظرة سريعة على ما يدعى" بنمط الانتاج الآسيوي"، الذي هو احد اشكال المجتمعات الطبقية البدائية التي خرجت من رحم المجتمع البدائي القديم، الذي يمثل شكلا من اشكال تقسيم العمل الاجتماعي الخاص الذي يقوم على اساس غياب ملكية الارض وعلى الاشغال العامة ومشاريع الري التي لا يمكن ارواء اراضيها بطرق أخرى.
ان ما يميز هذا النظام هو الوحدة المكتفية بذاتها في الزراعة والصناعة اليدوية، في اطار مشاعية القرية التي تنطوي على شروط اعادة الانتاج وانتاج الفائض، الذي ساعده على مقاومة عوامل الانحلال.وبغياب الملكية في الشرق نظريا، فان الملكية الجماعية او"الديرة، انما تشكل اساس نمط الانتاج الآسيوي أو الشرقي، وذلك لان من خصائص هذا النظام ان الوحدات الصغرى، التي تتمثل بالقرى، هي اجزاء من وحدة اكبر تقوم بتخصيص جزء من فائض انتاجها لصرفه على النفقات الضرورية، وبذلك تظهر السلطة بمظهر الحاكم الاستبدادي. كما ان هذا النظام له طبيعة مغلقة، لأن المدن مغلقة ومعزولة عن دورة الاقتصاد، ما عدا المدن التي تتعامل مع التجارة الخارجية. ولهذا لا يشكل نمط الانتاج الآسيوي مجتمعا طبقيا، لأن الملكية فيه هي ملكية انتفاع واستغلال فردي، وان المالك الحقيقي هو الجماعة. وبذلك تصبح الملكية جماعية.
وتمثل الوحدة الاجتماعية الكبرى فيه سلطة دولة ثيوقراطية- استبدادية ، بوصفها المالك العام والاسمي، والتي تمتلك فائض الانتاج، مثلما تمتلك عمل الافراد والجماعة معا.
لقد كان نظام الحكم الشرقي الاستبدادي عموما واعيا بحقيقة كونه المالك والمسؤول عن المحافظة الجماعية على طرق الري، التي لا يمكن ان تقوم الزراعة والصناعة اليدوية بدونها. ومتى تنهار طرق الري ينهار النظام الاجتماعي بعده.
المصادر: البرفسور - ابراهيم الحيدري
1- أنظر هنري براستيد، العصور القديمة،( ترجمة) دار قربان، بيروت 1983
2- شاكر مصطفى، حضارة الطين، دمشق 1996
3- طه باقر، ملحمة كلكامش، طبعة خاصة، دار المدى، دمشق 2001
4- جان كانال سوريه وآخرون، حول نمط الانتاج الآسيوي، بيروت 1978
--------------------------------------------------------------------------------